2012-10-18

عذرا يا أمي فالرجال يبكون


كنت لا أزال طفلا يحلم بالدراجة والكره ويرسم مستقبلا في خياله لايتعدى حدود المخيم الذي ولد فيه وعاش الايام العجاف  بين قنوات المياه التي تزكم الانوف برائحتها النتنه وبين طوابير البشر الجائعه التي تبحث عن كيس من الطحين أو وجبة ساخنه لاتتوفر في الخيام الرثه التي صدق الجميع انها مؤقته وسيأتي اليوم الذي يحرقونها فيه مؤذنين بالعوده الى عزنا في قرانا ومدننا التي طردنا منها . في ذلك الصباح المشؤوم أفقت مذعورا على صوت أمي تصرخ وتولول وتردد كلمات أفزعتني "مات .. موتوه الكلاب .. ياويلنا من بعدك" ... سألتها وانا مفزوعا مما سمعت : من الذي مات ؟ لم تجبني وواصلت البكاء وترديد نفس الكلمات


مما زاد في عصبيتي وصراخي أنا الاخر من الذي مات؟ أجابتني وهي لازالت تبكي .. عبد الناصر .. يا الهي عبد الناصر؟.. جمال؟ قالت نعم "راح سندنا"
لم أدر بنفسي حينها لتخرج مني صرخة مدويه  وأبدأ بالبكاء وكانت كالصدمه بالنسبة لها لتتوقف هي عن البكاء والعويل ولتأخذني بين ذراعيها وتبدأ بتهدئتي " اهدأ يابني .. قول الله يرحمه .. قول الله يعوضنا عنه" ورغم كلماتها تلك لم أهدأ .. كيف اهدأ وعبد الناصر الذي ارضعونا حبه مع حليب الطفوله قد مات .. كيف وعبد الناصر كان المهدي المنتظر في نظر اللاجئين الذي سيعيد لهم حقهم رغم هزيمته  في الحرب التي مازال وقعها كابوسا يؤرق نومهم كيف يا أمي وصوره لاتفارق كتبي المدرسيه .. كل كلماتها لم تفلح في تهدئتي فازداد صوتها حدة وقالت لي اسكت فانت كبير واصبحت رجلا والرجال من العيب أن يبكوا ... رجل ؟! قلت لها وما الذي يمنع ها أنتي امرأة كبيره وتبكين أجابتني أنه ليس عيبا أن تبكي المرأه لكن العيب بكاء الرجل وانت قد كبرت وأصبحت رجلا . أعلم انها كانت تريد تهدئتي بأي شكل من الاشكال ومنذ ذلك الحين لم أعد أراها تبكي أمامي حتى في أصعب الازمات كانت تخفي نفسها لتبكي وحدها وكي لا أراها . لقد زرعت في داخلي قناعة أن الرجال لايبكون ولا يجب أن يبكوا فالبكاء ضعف ولايعبر عن رجولة الرجل هكذا عشت وهكذا بقيت أعتصر الدمع في داخلي عند المصائب أو فقد الاحبه كي أحافظ على رجولتي ، حتى حينما فقدت صديقي احمد الذي صدمته حافلة اسرائيليه في تلك الفتره لم استطع البكاء عليه رغم تعلقي به وحزني الشديد عليه وحينما طلب مني معلمنا في المدرسه ان ألقي كلمة التأبين في جنازته رجوته أن يعفيني من ذلك لانني لن أستطيع فعل هذا أمام جمهور من الرجال الكبار لكنه أصر على ذلك وقال لي انه لايثق بغيري من أصدقاء الفقيد لالقاء الكلمه وأمام اصرار معلمي اضطررت للخضوع لرغبته وكان ذلك الموقف الذي لم أنساه ولن أنساه ، حاولت جاهدا أن اتماسك وأن لا أذرف دمعة واحدة أمام هذا الجمهور الكبير من الرجال الكبار في السن لدرجة أن قدماي أصبحت لاتحملاني لكني تماسكت حتى اخر حرف في الكلمه ثم تنحيت جانبا لاسقط على الارض من شدة ما أثقلت على نفسي وتحملت حبس دموعي ، رحمك الله يا أمي الم تعرفي اني انسان مثلك لي قلب ولي مقلتين ينساب فيهما الدمع في الحزن والفرح؟ لاأعتقد فانت تعرفين لكنه الموروث الاعوج الذي يختصر الرجولة في القسوة واستبعاد أحاسيس الانسان عن الانسان الرجل، اليوم فجعت بصديقي عيسى يا أمي توأم روحي وشق فؤادي مضى دون استئذان أو وداع قضى عند ذاك الجسر اللعين الذي طالما فرق الاحباب وهجر الاصحاب ، سامحيني يا أمي لم أستطع أن أحبس الدموع .. لم أستطع أن اكون "رجلا" وأصمد امام هذا الجلل .. انسابت الدموع نارا تحرق القلب والوجنتين ، انه عيسى يا أمي بين رحيله ورحيل أحمد الصغير سنوات طوال علمتني أن الانسان هو الانسان بذكره وأنثاه عقل وقلب واحساس ودموع ورحيل ، سامحيني يا أمي منذ اليوم لن أحبسها فقد اختبرت رجولتنا في المكان الذي يجب فيه ان تختبر ، بعد اغتصاب الارض وتقبيل يد الغاصب لم يعد لنا شيء من الرجوله ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق